جمعية البنوك اليمنية - صنعاء بتاريخ: 2025/07/20
وقع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 18 يوليو/تموز الحالي قانون جينيس لتنظيم العملات المشفرة المستقرة (Genius)، وهو أول تشريع فيدرالي شامل ينظم إصدار العملات المشفرة المستقرة المرتبطة بالدولار، من قبل شركات خاصة. وبموجب القانون، يسمح لتلك الشركات بإصدار عملات مشفرة مشروعة قانونياً، شرط امتلاكها احتياطيات نقدية أو أدوات دين سيادية قصيرة الأجل تغطي القيمة المصدرة بنسبة 1:1 (أي دولار لكل عملة)، إضافة إلى الالتزام بتقارير شهرية مستقلة ومراقبة دورية من هيئات رقابية مختصة.
واسم Genius هو اختصار لعبارة (Government-Enabled Neutral Issuance of Stablecoins)، أي "الإصدار المحايد للعملات المستقرة بتمكين حكومي". ويعكس هذا المفهوم توجهاً تشريعياً جديداً يعتبر أن إصدار النقود لا ينبغي أن يقتصر على الدولة، بل يمكن ترخيصه لكيانات تجارية خاصة. وهو ما يمثل تحولاً جوهرياً في فلسفة النظام النقدي، إذ يسمح القانون لأول مرة في تاريخ النظام النقدي بإصدار وحدات نقدية قابلة للتداول والتسعير، خارج إطار البنك المركزي (مجلس الاحتياط الفيدرالي).
ولا يشمل القانون كل العملات المشفرة، بل يقتصر على تنظيم العملات المشفرة المستقرة فقط، وهي أصول رقمية مصممة للحفاظ على قيمة ثابتة، غالباً ما تكون مرتبطة بالدولار، على عكس البيتكوين والعملات المشفرة الأخرى المعروفة بتقلباتها. ويستخدمها المستثمرون لحماية مكاسبهم دون تحويلها إلى أموال نقدية. كما تستخدم جسراً بين العملات المشفرة المختلفة. ومن أشهر العملات المستقرة حالياً USDT وUSDC، وتمثل هاتان العملتان حالياً أكثر من 80% من السوق العالمي للعملات المستقرة (بقيمة تقارب 260 مليار دولار).
تضارب مصالح
أكثر ما أثار الجدل حول القانون هو وجود عملة مشفرة مستقرة تحمل اسم USD1 أطلقتها شركة وورلد ليبرتي فاينانشال (WLFI) المرتبطة بعائلة ترامب، وتعمل فعلياً بصفتها أحد نماذج العملات المشفرة المستقرة التي يفترض أن يشملها القانون الجديد، وهو ما دفع أعضاد من الحزب الديمقراطي إلى اتهام الرئيس ترامب بتضارب المصالح. وقال النائب الديمقراطي، براد شيرمان، الذي صوت بالرفض لقانون "جينيس"، خلال جلسة التصويت، إن "القانون لا ينظم السوق بقدر ما يفرغه من الرقابة"، وفقا لوكالة بلومبيرغ. واعتبر شيرمان أن التشريع يمهد الطريق أمام شركات خاصة لإصدار نقد بديل خارج سلطة الدولة، دون وجود ضمانات كافية لحماية المستهلكين أو الحد من تقلبات السوق المرتبطة بالعملات المستقرة.
وأشار شيرمان إلى أن القانون "كتب بما يخدم مصالح فئة محدودة من المستثمرين والمقربين من السلطة"، في إشارة غير مباشرة إلى علاقة الرئيس ترامب بعملة USD1. وعبر عن قلقه من أن القانون قد يعيد إنتاج أزمة "التمويل الظلي" على نطاق رقمي عالمي، خاصة مع غياب بنود صارمة تتعلق بالمساءلة أو مسؤولية الجهات المُصدرة في حال الفشل أو التلاعب بالاحتياطيات. وختم شيرمان مداخلته داخل جلسة التصويت بالتحذير من أن "هذا القانون قد يكون الخطوة الأولى في مسار ينهي الدور التاريخي للبنك المركزي ضامناً للاستقرار النقدي، ويحول السياسة المالية إلى حلبة جديدة للمصالح التجارية الكبرى".
ورغم تقديم ترامب القانون على أنه دعم للابتكار المالي، وتوسيع للبنية التحتية الرقمية، فإن الرافضين له اعتبروا مضمونه يمثل في جوهره انقلاباً رقمياً ناعماً يهدد عروش البنوك المركزية، عبر منح القطاع الخاص أدوات إصدار نقدية معترف بها قانوناً، دون خضوع فعلي لأدوات السياسة النقدية أو هياكل الرقابة السيادية. وهو ما يفتح الباب أمام إعادة تشكيل السلطة النقدية، وإعادة توزيع مراكز التحكم في المال بين الدولة والسوق. وقال ترامب لمسؤولين في صناعة العملات المشفرة، خلال حفل توقيع في البيت الأبيض، حضره نحو 200 شخص، بينهم عدد من كبار النواب الجمهوريين، مساء الجمعة الماضي: "لسنوات، جرت السخرية منكم واستبعادكم وتجاهلكم... هذا التوقيع هو اعتراف كبير بعملكم الجاد، وروحكم الرائدة".
تآكل سيطرة البنوك المركزية
وفقاً لتقرير نشرته "وول ستريت جورنال" في 18 يوليو الحالي، فإن وزارة الخزانة الأميركية قدرت أن العملات المستقرة -إذا انتشرت بشكل موسع- قد تتسبب في سحب ما يصل إلى 6.6 تريليونات دولار من الودائع المصرفية نحو العملات المستقرة، ما يهدد قدرة البنوك على تمويل القروض وضخ السيولة في الاقتصاد. فالعملة المستقرة، في جوهرها، تمثل شكلاً جديداً من النقود غير الخاضعة لرقابة البنوك المركزية، ومتصلة بسلاسل كتل لا تمر عبر النظام المصرفي التقليدي. وحذرت المديرة في مؤسسة التحليلات المالية الفيدرالية، كارن بيترو، من أن السماح لمُصدري العملات المستقرة -خاصة غير المصرفيين- بالوصول إلى نظام الاحتياطي الفيدرالي، دون التزامهم بقواعد السيولة الصارمة المفروضة على البنوك، يعني أنهم قد يستفيدون من النظام النقدي دون أن يشاركوا في مسؤولياته، وهو ما يخلق منافسة غير عادلة ويضعف فعالية أدوات الفيدرالي.
ورغم أن القانون لا يمنح ترخيصاً مباشراً لهذه الجهات بالدخول إلى النظام الفيدرالي، فإنه لا يمنع ذلك أيضاً، ما يترك القرار النهائي في يد مسؤولي الفيدرالي. وهذا ما أثار قلق المؤسسات المصرفية، التي ترى في هذه التطورات بداية لانقلاب رقمي هادئ يهدد دورها التقليدي في تمويل الاقتصاد وضبط الإقراض. وقالت وكالة موديز للتصنيف الائتماني، في تقرير حديث لها، إن التوسع المستقبلي في استخدام العملات المستقرة، في ظل قانون "جينيس"، قد لا يظهر تأثيراً فورياً على أرباح البنوك، لكنه يحمل تهديدات هيكلية طويلة الأجل للنظام المصرفي. وأكد التقرير أن البنوك، خصوصاً الصغيرة والمتوسطة، قد تواجه ضغوطاً متزايدة على مصادر تمويلها، بسبب احتمال سحب جزء كبير من ودائع العملاء لصالح حيازة عملات مستقرة مثل USDC وUSDT.
وأضافت "موديز" أن الاعتماد المتزايد على العملات المستقرة في خدمات الدفع قد يؤدي أيضاً إلى انخفاض إيرادات البنوك من الرسوم التقليدية، مثل رسوم التحويلات، وإدارة الخزينة، وخدمات المقاصة بين البنوك. كما أشارت إلى أن ازدياد التعامل بالرموز المشفرة المدعومة بالأصول، باعتبارها بديلاً منخفض الكلفة لأدوات الدين التقليدية، قد يضعف عوائد البنوك من أنشطة التداول والتوريق. لكن تقرير "موديز" لم يتجاهل أن البنوك الكبرى قد تملك الأدوات اللازمة للتكيف مع هذا التحول، بفضل ثقة العملاء وبنيتها التحتية التنظيمية المتقدمة. ومع ذلك، يبقى الخطر قائماً في حال تسارعت وتيرة التحول الرقمي دون حوكمة صارمة تضمن المنافسة العادلة، وتحد من التمييز التنظيمي بين المصارف ومُصدري العملات المستقرة غير الخاضعين للمعايير نفسها.
وفقاً لتقديرات "سيتي غروب"، قد يصل حجم سوق العملات المستقرة إلى 1.6 تريليون دولار بحلول عام 2030، أي بزيادة سبعة أضعاف عن حجمه في مارس/آذار 2025. ويتوقع التقرير أن يصاحب هذا النمو شراء ما يصل إلى تريليون دولار من أذون الخزانة قصيرة الأجل، وهو ما يعني دخول لاعبين جدد إلى سوق الدين الحكومي يفوقون في تأثيرهم معظم الحكومات الأجنبية. وتؤكد دراسة حديثة صادرة عن بنك التسويات الدولية أن هذا الطلب الكبير على الأذون قصيرة الأجل قد يخفض عوائدها، لكنه قد يجعل السوق أكثر تقلباً، لا سيما في حالات الذعر أو سحب جماعي للعملات المستقرة، حيث تميل تلك الانهيارات إلى رفع العوائد بمعدل يفوق الأثر الانخفاضي خلال الفترات الهادئة.
الأخطر من ذلك -بحسب محللي بنك التسويات الدولية- أن تراكم كميات هائلة من الدين الحكومي الأميركي في أيدي جهات إصدار العملات المستقرة قد يقيد قدرة الاحتياطي الفيدرالي على إدارة أسعار الفائدة قصيرة الأجل، وهي الأداة الأساسية لضبط التضخم وتحفيز الاقتصاد. ويزيد ذلك من تعقيد مهمة الفيدرالي في وقت تتزايد فيه هشاشة الأسواق، وتكاليف خدمة الدين العام الأميركي، التي تجاوزت 881 مليار دولار عام 2024، ويتوقع أن تتخطى تريليون دولار سنوياً بحلول 2026.
سباق محموم
بعد توقيع ترامب رسمياً على قانون "جينيس"، تسارع كبرى البنوك التقليدية وشركات التكنولوجيا المالية في وضع برامج عاجلة لإدماج العملات المستقرة في الحياة اليومية للمستهلك الأميركي، مستفيدة من القانون الجديد، وفقاً لتقرير نشره موقع أكسيوس. وأشار التقرير إلى أن شركات مثل Coinbase وPayPal بدأت بالفعل في طرح برامج ادخار تتيح للمستخدمين شراء عملات مستقرة وتحقيق عوائد قد تصل إلى 4% سنوياً، وهو ما يتجاوز بكثير متوسط العوائد على حسابات التوفير البنكية التقليدية. ورغم أن هذه العملات مدعومة بالكامل باحتياطيات نقدية، فإنها لا تخضع للتأمين الفيدرالي.
ومن ناحية أخرى، كشف التقرير عن اتجاه بعض الشركات الناشئة إلى تقديم حوافز فورية على عمليات الشراء باستخدام العملات المستقرة، كاسترداد نقدي مباشر، يعود جزئياً إلى غياب رسوم التحويل التي تدفعها المتاجر عادة في بطاقات الائتمان.
لكن رغم هذه التحولات، حذّر التقرير من أن تبني العملات المستقرة على نطاق جماهيري واسع لا يزال مرهوناً بمدى تقبل الجمهور للتحول من نظم دفع تقليدية مستقرة ومنتشرة، إلى آليات مالية جديدة قائمة على تكنولوجيا البلوكشين. ورغم الجاذبية التقنية، فإن العقبة الأهم قد تكون مقاومة المؤسسات المالية التقليدية، التي تخشى فقدان السيطرة على حركة الأموال والعوائد. ويتوقع التقرير أن يشعل هذا التحول سباقاً محموماً بين البنوك الكبرى، التي قد تحاول الانخراط في النظام الجديد، عبر احتضان العملات المستقرة وإدارة احتياطياتها، وبين شركات التقنية التي تسعى لفرض نماذج دفع مبتكرة تحاكي احتياجات المستهلك العصري.
العربي الجديد